محمد البالي
(المصدر: halainfo.com)
شمال المغرب، بين شمس ملوية العائمة على القوس الأبيض المتوسط ، وقمر تدغين السالك بين الأشجار والأحجار إلى أورنكا .
بنار التاريخ وصلابة الجبال تفتتت قلوب . بين أريج الغاب ولوعة الفراق مزجت الحياة لغة في غناء ؛ أنّـات وحنين ، رغبات وعويل…
أرض المدامع والكبرياء ، وقلوب بين الصلابة والهشاشة تفوح عنادا وتقطر شوقا ، بين سوار العادات وشجون الغربة ، بين مرارة الذكرى وقساوة الأيام وبين قوة الإصرار وفسحة الأمل بحثا عن حرية الأرض وانعتاق الإنسان ، تَـفتّـق في الشعر وليد يرضع الحرمان ، تذروه الألسن وتَـصْدحه زغاريد نساء حازمات ، يطنّ بلحنه البندير ليهزّ أوصال الجسد الموشوم الملفوف بزخرفات أصابع الحنّـاء …
شِـعر أَوّاه وغناء جوّال بين المداشر والمنافي ، هو الإيزري الصامد من زمان في ذاكرات الجدّات والمنساب في تلاوين القول الريفي الجديد على لسان سام ومازيغ وموليير … صبور وهشّ ، وفي هشاشته قوة انتشاره، معدن وطن وقلب إنسان. ومن المحنة لَـشِعْـرا ومن الأحزان نبع الإيزري…
أيا را لاّ يا را *** أيا را لاّ بويا
يعتبره دارسو الشعر الأمازيغي بمنطقة الريف من النوع القديم في مسار هذا الفن سواء اعتمدوا التصنيف الكرونولوجي أو التقسيم باعتبار الشفهية والتدوين ، ويندرج ، انطلاقا من هذا ، ضمن المرحلة الأولى من المراحل التالية :
– الشفهية التي اعتمدت الرواية والغناء قبل وبعد الاستقلال .
– التدوين والكتابة نهاية السبعينات، وأما أول ديوان فتأخر صدوره إلى سنة 1992 .
– التسجيل الصوتي منذ التسعينات .
نماذج:
الجهاد :
ءيصوظاد ءو صاصيظ
ذي تغالاشت ءو رومي
ءينا داد فاس ءا ربي
ءا قارعي يا وادي
نتا سيدي موحاند
ءيذ جاهذان ءا رومي .
تحويل الكلام إلى العربية ( م – البالي ) :
هبت الريح
في نافوخ الاسبان
وسلط الله عليه
بطـلا قلعيـا
هو سيدي موحاند
المجاهد في الاسبان .
ذكرى عام الجوع :
ما واذا وايعقرن ءيوسكّاس ني يعفان
رامي ينقظع رءاروظ وايتذيف حدّ غارخّام
زكّامي نجّـا وارنشّي ءافقوس
ءومي دغاس غانكَارنكار غارس ءاقطوس .
تحويـل إلى الجملة العربية ( م – ب ) :
ألا تتذكرين العام العفن
لمّا انقطع الزاد لم يزر دارنا أحد
ما أكلْـنا فقوسا مذ كُـنا
وفي الأخير قمنا إليه جميعا .
مخاطبة الفقيه ( تسخير الشّـعَـر في الشعوذة ) :
أيا شواف إنو ، إيتمايسين ذي رجبوب
أرفقي ن تامزيذا ، أزايي ثاويذ دنوب .
تحويل إلى العربية ( م – ب ) :
وا شَـعري يبيت في الآبار
عليك ذنوبي يا فقيه الجامع .
لقي الإيزري ثلاثة أنواع من الاهتمام : الأول شعبي عن طريق الغناء المحتشم في المنازل والحُر في الطبيعة والمُعلن المشهور في الأعراس والمناسبات . أما الاهتمام الثاني فتمثله كتابات استمزاغية منها : ” ملاحظات حول الأدب والشعر عند الريفيين ” ل ل. جوستينار و ” وراء باب الفناء : الحياة اليومية للنساء الريفيات ” ل أورسولا هارت ؛ اهتمت فيه المؤلفة بالرقص في منطقة الريف . وأما الاهتمام الثالث فتمثله كتابات مؤلفين أمازيغ كمحمد شفيق في كتابه ” لمحة عن ثلاثة وثلاثين قرنا من تاريخ الأمازيغية ” أو أنشطة وإصدارات جمعيات ثقافية بالريف وكتابات ودراسات أبناء المنطقة ككتابات محمد الشامي عن ” الذاكرة الشفهية بالريف ” وبلقاسم الجطاري والعمري عبد الرزاق في ” الأدب الأمازيغي بالريف من الشفاهية إلى الكتابة ومأزق الترجمة ” ومحمد أسويق في ” الشعر الأمازيغي القديم : جمالية البلاغة وسؤال الهوية ” و جميل حمداوي في مؤلفات كثيرة منها : ” الشعر بمنطقة الريف – أنطولوجيا وببليوغرافيا ” و ” قراءات في الشعر الأمازيغي بالريف ” مشترك مع فؤاد أزروال ، دون إغفال بحوث جامعية وسلسلة قراءات ومقالات ودراسات ورقية والكترونية نمثل لها بكتابات سعيد الغربي وبالمشتركة بين اليمني قسوح و عبد المطلب الزيزاري وغيرهم ، فضلا عن مطبوعات الندوات واللقاءات الدراسية .
رغم هذا التعدد المتنوع ، لن يعثر القارئ على تعريف شامل لهذا النوع الشعري ، وبتجميع مبثوثات مواصفاته – فيما عايناه من كتابات عن الشعر الأمازيغي وبالريف خاصة ، وفيما سمعناه من نصوص عن طريق الرواية والغناء – يمكن القول أن الإيزري مفرد ازران ، هو ذاك الشعر الشعبي الأمازيغي القديم ، عرفته منطقة الريف قبل الاستقلال واستمر إلى ما بعد مرحلة التدوين ؛ تميّز بطابعه العفوي والارتجالي ، ارتبط بالغناء وأُسنِـد بالرواية الشفهية الفردية والجماعية . وأما مصدره فالذاكرة ؛ بلسان مازيغ ردّدته نساء وتقوّله رجال ، ثم سار في الصحائف بين حروف ” الأَبَـجَـد ” و” الأَبِـسيد ” و ” تيفناغ ” .
والإيزري مِلْـك جماعي لا يعرف قائله ، مشاع بين القبائل والرواة ، ويرجح البعض اعتباره من إبداع المرأة الريفية التي وسمت شخصيتها فنون مختلفة من القول كالشعر والسرد العجائبي ، ومن الرقص والغناء ، ومن التشكيل كوشم الجسد وطرز الزرابي . وأما الرجال فكانت شخصيتهم في أعمال الكسب وفي السياسة والدفاع عن الحوزة وفي شيء من العلم والتفقه . وهي مهام قد تتطلب أسفارا وهجرة أوطان ؛ لذلك غلب على إبداعهم شعر الملاحم .
نماذج:
ثوريد طيارا ثوريد ءاتار ثروش
ءافغانت ءاثي ناحجاب ءاتاوشانت ءيوخبوش
ءينا وجيوان ﮔ ءوخام راوزيعاث يا شيت ءوموش.
أقبلت الطائرات تشن غاراتها
اخرجن أيتها المتحجبات، واجعلن الكهوف مخابئ
فتركن البيوت لتسكنها القطط .
- من آثار الحرب الأهلية الاسبانية :
ءابيس ءابياس نّم ثكّد خاس رمظات
نشين نزوا غاسبانيا ءانمّث
ءابيس ءابياس نم ءا عذراس ءازيار
ءا يابُوليس ماذرار ولّاه عمر ويظهار .
- تحويل إلى الجملة العربية ( م – ب ) :
احزمي حزامك وشديه
نحن رحلنا إلى اسبانيا كي نموت
احزمي حزامك واعدلي شدّه
فالجندي والله لن يعود .
غنائي / رومانسي المضمون في الأغلب الغالب ؛ تعبيرا عن مآسي الحروب وانتصاراتها ، عن لواعج الذات وأمنيات الجموع ، سجل الأفراح والأتراح . ظلم التاريخ فيه وظِـلّ الخرافة ، دارصنائع ومشتل نبات ، بيت الراغب والزاهد ، ” مولد ” وممات ، عرس وعويل ، حب بلا زواج ، رقصة المذبوح فيه وآهات المحبوب ، تُصارع الموتَ فيه الحياةُ بين مآسي شيوخ وأحلام شباب في منعرجات الحال ومسالك المحال ، مَرْكب غربة وسماء ظنون ، شِعْـر قصير لشَعَـر ” نونجا ” الطويل . لغته الغاب والجسد الموشوم ، جامع الكلم المرغوب والمقموع . والقلب عقلُه وملتقى البصر فيه والظنون . والمرأة ، أمّا المرأة ؛ ظهر المقاوم وأم المغترب وعشقه القاسي ، حبيبة وعاشقة ، قلب ذا الشعر وجسمه ، صورته وصوته :
ءارمان نسفري ذي رعراسي يفري
ئيخسيشم ءورينو واغاري ما ينزي .
رمان السفري ناضج في الحقول
يهواك قلبي ولا قدرة لي .
” ماما ” أثان يكين ، ثيكَاز سادو وابر
ثاكيثنت إيو حبيب ، أرياز أتيقابر .
ماما يا واضعة الوشم تحت الأهداب
كم أغريت بجمالك من الرجال
واذتروغ ءا ذتروغ ويفارقيغ ءا ثسروغ
سيذي موذروس ءينو ماش غاكَغ ءاثتّـوغ .
أبكي أبكي ومن فارقت أبكيه
سيدي حبيبي ، كيف أنساه ؟
أيا شواف إنو ، ياركب خ وور إنو
مارمي ما مشضخث يوسوس ماسكين إنو .
ـ ترجمة سعيد بلغربي :
يا شعري العارف بمكنونات قلبي
كلما مشطته أحسست به يذوب أمامي حزنا .
و الإيزري علامة وطقسه إشارة ، إثارة واستجابة ؛ تصدح شابات فيجيب شباب من الخارج بطلقات بنادق إعلانا بوصول الرسالة ، عشق بين كلام ونار موصول بجرح الحناجر وآهات البنادير ، خِـطبة في خطاب ، قرية في عرس واحد ، يتزوج القوم افتراضا وتتوالد الأحلام ، هو الإيزري بريد العشاق
ويتخذ أغلب الإيزري الشكل التالي :
- نظام البيت المستقل < إزري > .
- مطلع يتكرر لازمة .
- تييات صوتية ( التيت : وحدة صوتية من مقطع واحد ) .
- إيقاع ” ن – بويا ” :
لايارا لايارا *** لايارا لابويا
فالبيت الشعري التقليدي الخاضع لإيقاع ” ن – بويا ” ( ويسمى أيضا رميزان أنعاشي ) ؛ ينبني إيقاعيا على الحركات الصوتية . وهي اثنتا عشرة / 12 حركة ، و يكتمل بأربع / 24 حركة لإتمام المعنى .
ونشير هنا إلى أن هذا النمط الإيقاعي لم يكن قانونا صارما انضبطت له كل أصناف ” الإزري ” الريفي ، كما أن لازمة ” ن – بويا ” تغيرت بما يناسب القائل وظروف القول ؛ ومن بين تحويراتها إدخال همزة النداء لتصير : ألا يا را لا يا را *** ألا لا را لا بويا . أو إشراك الهمزة ويا في صيغة (أيا را لا يا را ) المشهورة إلى يومنا .
وثمة من يعتبر ” ن – بويا ” أول شعر شفهي بمنطقة الريف سبق أشعار الملاحم وأغنيج و ثقاصيصت ، وأخذت بعضها منه . ويرى البعض أن لازمته تحيل على مأساة مدينة ” النكور ” سنة 1084 م ، أيام المرابطين ، إذ تعني لازمة ( أيارلي يارال أيارا لا بويا ) : أيا أماه ويا أباه ؛ ندبة على فقد الأهل في تلك الفاجعة التاريخية – التي شكك دارسون من أهل الريف في صحتها مرجعين بكائيتها إلى ظروف مأساوية أخرى تعددت في تثبيت الحزن بالمنطقة لكثرة ما عاشته من حروب وما خاضته من معارك ، من الغزو الروماني في أربعينات القرن الأول الميلادي وخاصة مع التوسع الامبريالي في القرن التاسع عشر وضد الاستعمار الاسباني والفرنسي بدايات القرن العشرين ، في مقاومات بطولية تاريخية بقيادة المجاهدَين محد أمزيان وابن عبد الكريم الخطابي ؛ والتي كان ” الإزري ” سجلّا لها . وثمة من أعطاها دلالة ” أيا سيدتي ” ، وتوارثها البعض إحالة على إله يتغنون بذكر اسمه في المناسبات معتبرينه فأل خير .
هذا ، وصُـنّف ” ن – بويا ” نوعا من الرقص تتحرك فيه فتيات على شكل دائرة تنفتح تدريجيا لتصير صفا تحركن فيه أعلى أجسادهن جماعة ، تتخلله وقفات منتظمة و ثني خفيف للركبتين ، ثم تربطن الخصور بمناديل الرؤوس للرقص على إيقاع جديد يلائم دقات البندير . وقد يشاركهن رجال محترفون في هذه الرقصة المشهورة، ” إمذيازن ” المتجولون بين قرى ومدن الريف تكسبا بالرقص والغناء.
وانتقلت التسمية إلى الشعر الذي كان يقدّم أهازيج متوارثة أو مرتجلة أوقات المناسبات الراقصة ولحظات ” تغرّامت ” وسواها .
وبما أن هذا النوع من الشعر ينتمي لمرحلة ما قبل التدوين ، فثمة صعوبة في الحصول على كمية إنتاجية منه سليمة تسمح بدراسة موضوعية . على غرار ما يتيحه نظيره من الشعر الريفي المكتوب والمسجل ، الذي وفر تراكما في الداخل والخارج على السواء .
هذا ونشير أن أصغر ” الإيزري ” بيتان ؛ وهذه بعض نماذج من ذاك القول / الغِناء راعينا تمثيلها اختلاف المضامين :
سيدي محمد يمّوث غارو عاشي
ءيكسّيد او رومي يا كسيث ذي كاروسا
ءيواظ غار ءو زروهمار يوثا ذي كانيطا
ءومي دغايا وكحان ءا كوحاند ذي خمسا
ثرقاثانذ حبيبة ثناسان ماني يجّا بابا
ناناس بابام قا يمّوث ثانغيث حاراقا
ءومي ذا يس ثغاينين ثاسغوي ءو شا ثوظا
ء يقّيم يور ذا برشان ء يخبشيث ءو مطار
- تحويل إلى الجملة العربية ( م – ب ) :
مات سيدي محمد في المساء
نقله الاسبان وحملوه في عربة
وصلوا ” زروهمار ” وأطلقوا الموسيقى
لما عادوا عادوا في خمسة
لقيتهم حبيبة وسألتهم : أين أبي ؟
قالوا : أبوك مات ، قتلته الحرب
لما أخبروها صاحت وقفزت
وصار القلب أسود يخبشه الدمع .
أغانيم أغانيم يكامن فوذ ذكفوذ
أقام ثنفيذاي ، أم تيكَـاز ؤفوذ .
يا عيدان القصب النامية كالأفخاذ
أهيم بحبك يا صاحبة الوشم في الفخذ .
اعتمدنا في إدراج نماذج الإيزري على :
- نصوص الإيزري التي دُونت بالحرف العربي ، ومنها – إضافة إلى غيرها – ما دوّن بالحرف اللاتيني و الأمازيغي ” تيفناغ ” . وأما نصوص الشعر الأمازيغي الحديث فمنها ما يكتب – بدءا – بحروف إحدى اللغات الثلاثة ، أو بغيرها ، وقد صدر ديوان باللغة الآرامية ؛ وهي لغة سامية ما تزال متداولة في سوريا – بالأخص – بين مسيحيي الكنائس السريانية .
- أشرطة أغاني منطقة الريف كما في نموذج عذاب الحب.
وكثيرا ما لجأنا إلى مقارنة النصوص نفسها في مراجع ودراسات مختلفة ، أومقارنتها بالمقاطع الغنائية .
لقد نعتنا هذا الإيزري بالمغربي تمييزا عن نظيره بمنطقة القبائل الجزائرية، فضلا عن كونه واحدا من المكونات الثقافية التي تزخر بها منطقة شمال المغرب، إذ يمثل جنب فنون جبلية وأندلسية هوية راسخة لكن منفتحة؛ استوعبت التطور المتسارع في مجال الفن أدبا كان أو موسيقى أو تشكيلا أو عمارة…
إرسال تعليق
انقر لرؤية رمز الإبتسامة
لإدراج التعبيرات يجب إضاف مسافة واحدة على الأقل